الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
والشاكلة: الطريقة والسيرة التي اعتادها صاحبها ونشأ عليها. وأصلها شاكلة الطريق، وهي الشعبة التي تتشعب منه. قال النابغة يذكر ثوبًا يشبه به بُنيات الطريق: وهذا أحسن ما فسر به الشاكلة هنا. وهذه الجملة في الآية تجري مجرى المثل. وفرع عليه قوله: {فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا} وهو كلام جامع لتعليم الناس بعموم علم الله، والترغيب للمؤمنين، والإنذار للمشركين مع تشكيكهم في حقية دينهم لعلهم ينظرون، كقوله: {وإنا أو إياكم لعلى هدى} الآية [سبأ: 24]. {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)}. وقْعُ هذه الآية بين الآي التي معها يقتضي نظمُه أن مرجع ضمير {يسألونك} هو مرجع الضمائر المتقدمة، فالسائلون عن الروح هم قريش. وقد روى الترمذي عن ابن عباس قال: قالت قريش ليهود أعطونا شيئًا نسأل هذا الرجل عنه، فقالوا: سَلوه عن الروح، قال: فسألوه عن الروح، فأنزل الله تعالى: {ويسألونك عن الروح} الآية. وظاهر هذا أنهم سألوه عن الروح خاصة وأن الآية نزلت بسبب سؤالهم. وحينئذٍ فلا إشكال في إفراد هذا السؤال في هذه الآية على هذه الرواية. وبذلك يكون موقع هذه الآية بين الآيات التي قبلها والتي بعدها مسببًا على نزولها بين نزول تلك الآيات. واعلم أنه كان بين قريش وبين أهل يثرب صلات كثيرة من صهر وتجارة وصحبة. وكان لكل يثربي صاحب بمكة ينزل عنده إذا قدم الآخر بلده، كما كان بين أمية بن خلف وسَعْد بن معاذ. وقصتهما مذكورة في حديث غزوة بدر من صحيح البخاري. روى ابن إسحاق أن قريشًا بعثوا النضر بن الحارث، وعقبة بن أبي مُعيط إلى أحبار اليهود بيثرب يسألانهم عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم فقال اليهود لهما: سلوه عن ثلاثة. وذكروا لهم أهل الكهف وذا القرنين وعن الروح كما سيأتي في سورة الكهف، فسألتْه قريش عنها فأجاب عن أهل الكهف وعن ذي القرنين بما في سورة الكهف، وأجاب عن الروح بما في هذه السورة. وهذه الرواية تثير إشكالًا في وجه فصل جواب سؤال الروح عن المسألتين الأخريين بذكر جواب مسألة الروح في سورة الإسراء وهي متقدمة في النزول على سورة الكهف. ويدفع الإشكال أنه يجوز أن يكون السؤال عن الروح وقع منفردًا أول مرة ثم جمع مع المسألتين الأخريين ثاني مرة. ويجوز أن تكون آية سؤال الروح مما ألحق بسورة الإسراء كما سنبينه في سورة الكهف. والجمهور على أن الجميع نزل بمكة، قال الطبري عن عطاء بن يسار: نزل قوله: {وما أوتيتم من العلم قليلًا} بمكة. وأما ما روي في صحيح البخاري عن ابن مسعود أنه قال: بينما أنا مع النبي في حرث بالمدينة إذ مر اليهود فقال بعضهم لبعض سلوه عن الروح، فسألوه عن الروح فأمسك النبي صلى الله عليه وسلم فلم يردّ عليهم شيئًا، فعلمتُ أنه يوحى إليه، فقمت مقامي، فلما نزل الوحي قال: {ويسألونك عن الروح} الآية. فالجمع بينه وبين حديث ابن عباس المتقدم: أن اليهود لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم قد ظن النبي أنهم أقرب من قريش إلى فهم معنى الروح فانتظر أن ينزل عليه الوحي بما يجيبهم به أبين مما أجاب به قريشًا، فكرر الله تعالى إنزال الآية التي نزلت بمكة أو أمره أن يتلوها عليهم ليعلم أنهم وقريشًا سواء في العجز عن إدراك هذه الحقيقة أو أن الجواب لا يتغير. هذا، والذي يترجح عندي: أن فيما ذكره أهلُ السير تخليطًا، وأن قريشًا استقوا من اليهود شيئًا ومن النصارى شيئًا فقد كانت لقريش مخالطة مع نصارى الشام في رحلتهم الصيفية إلى الشام، لأن قصة أهل الكهف لم تكن من أمور بني إسرائيل وإنما هي من شؤون النصارى، بناءً على أن أهل الكهف كانوا نصارى كما سيأتي في سورة الكهف، وكذلك قصة ذي القرنين إن كان المراد به الإسكندر المقدوني يظهر أنها مما عني به النصارى لارتباط فتوحاته بتاريخ بلاد الروم، فتعين أن اليهود ما لَقنوا قريشًا إلا السؤال عن الروح. وبهذا يتضح السبب في إفراد السؤال عن الروح في هذه السورة وذكر القصتين الأخريين في سورة الكهف. على أنه يجوز أن يتكرر السؤال في مناسبات وذلك شأن الذين معارفهم محدودة فهم يلقونها في كل مجلس. وسُؤالهم عن الروح معناه أنهم سألوا عن بيان ماهية ما يعبر عنه في اللغة العربية بالروح والتي يعرف كل أحد بوجه الإجمال أنها حالّة فيه. والروح: يطلق على الموجود الخفي المنتشر في سائر الجسد الإنساني الذي دلت عليه آثاره من الإدراك والتفكير، وهو الذي يتقوم في الجسد الإنساني حين يكون جنينًا بعد أن يمضي على نزول النطفة في الرحم مائة وعشرون يومًا. وهذا الإطلاق هو الذي في قوله تعالى: {فإذا سويته ونفخت فيه من روحي} [ص: 72]. وهذا يسمى أيضًا بالنفس كقوله: {يا أيتها النفس المطمئنة} [الفجر: 27]. ويطلق الروح على الكائن الشريف المكون بأمر إلهي بدون سبب اعتيادي ومنه قوله تعالى: {وكذلك أوحينا إليك روحًا من أمرنا} [الشورى: 52] وقوله: {وروح منه} [النساء: 171]. ويطلق لفظ {الروح} على المَلك الذي ينزل بالوحي على الرسل. وهو جبريل عليه السلام ومنه قوله: {نزل به الروح الأمين على قلبك} [الشعراء: 193]. واختلف المفسرون في الروح المسؤول عنه المذكور هنا ما هو من هذه الثلاثة. فالجمهور قالوا: المسؤول عنه هو الروح بالمعنى الأول، قالوا لأنه الأمر المشكل الذي لم تتضح حقيقته، وأما الروح بالمعنيين الآخرين فيشبه أن يكون السؤال عنه سؤالًا عن معنى مصطلح قرآني. وقد ثبت أن اليهود سألوا عن الروح بالمعنى الأول لأنه هو الوارد في أول كتابهم وهو سفر التكوين من التوراة لقوله في الإصحاح الأول وروح الله يرف على وجه المياه. وليس الروح بالمعنيين الآخرين بوارد في كتبهم. وعن قتادة والحسن: أنهم سألوا عن جبريل، والأصح القول الأول. وفي الروض الأنف أن النبي صلى الله عليه وسلم أجابهم مرة، فقال لهم: هو جبريل عليه السلام وقد أوضحناه في سورة الكهف. وإنما سألوا عن حقيقة الروح وبيان ماهيتها، فإنها قد شغلت الفلاسفة وحكماء المتشرعين، لظهور أن في الجسد الحي شيئًا زائدًا على الجسم، به يكون الإنسان مدركًا وبزواله يصير الجسم مسلوبَ الإرادة والإدراك، فعلم بالضرورة أن في الجسم شيئًا زائدًا على الأعضاء الظاهرة والباطنة غير مشاهد إذ قد ظهر بالتشريح أن جسم الميت لم يفقد شيئًا من الأعضاء الباطنة التي كانت له في حال الحياة. وإذ قد كانت عقول الناس قاصرة عن فهم حقيقة الروح وكيفية اتصالها بالبدن وكيفية انتزاعها منه وفي مصيرها بعد ذلك الانتزاع، أجيبوا بأن الروح من أمر الله، أي أنه كائن عظيم من الكائنات المشرفة عند الله ولكنه مما استأثر الله بعلمه. فلفظ {أمر} يحتمل أن يكون مرادف الشيء. فالمعنى: الروح بعض الأشياء العظيمة التي هي لله، فإضافة {أمر} إلى اسم الجلالة على معنى لام الاختصاص، أي أمر اختص بالله اختصاص علممٍ. و{من} للتبعيض، فيكون هذا الإطلاق كقوله: {وكذلك أوحينا إليك روحًا من أمرنا} [الشورى: 52]. ويحتمل أن يكون الأمر أمرَ التكوين، فإما أن يراد نفس المصدر وتكون {من} ابتدائية كما في قوله: {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} [النحل: 40]، أي الروح يصدر عن أمر الله بتكوينه؛ أو يراد بالمصدر معنى المفعول مثل الخلق و{من} تبعيضية، أي الروح بعض مأمورات الله فيكون المرادُ بالروح جبريلَ عليه السلام، أي الروح من المخلوقات الذين يأمرهم الله بتبليغ الوحي، وعلى كلا الوجهين لم تكن الآية جوابًا عن سؤالهم. وروى ابن العربي في الأحكام عن ابن وهب عن مالك أنه قال: لم يأته في ذلك جواب. اهـ. أي أن قوله: {قل الروح من أمر ربي} ليس جوابًا ببيان ما سألوا عنه ولكنه صرف عن استعلامه وإعلام لهم بأن هذا من العلم الذي لم يؤتوه. والاحتمالات كلها مرادة، وهي كلمة جامعة. وفيها رمز إلى تعريف الروح تعريفًا بالجنس وهو رسم. وجملة {وما أوتيتم من العلم إلا قليلًا} يجوز أن تكون مما أمَر الله رسولَه أن يقوله للسائلين فيكون الخطاب لقريش أو لليهود الذين لقنوهم، ويجوز أن يكون تذييلًا أو اعتراضًا فيكون الخطاب لكل من يصلح للخطاب، والمخاطبون متفاوتون في القليل المستثنى من المؤْتَى من العلم. وأن يكون خطابًا للمسلمين. والمراد بالعلم هنا المعلوم، أي ما شأنه أن يعلم أو من معلومات الله. ووصفه بالقليل بالنسبة إلى ما من شأنه أن يعلم من الموجودات والحقائق. وفي جامع الترمذي قالوا أي اليهود: أوتينا علمًا كثيرًا التوراةَ ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرًا كثيرًا، فأنزلت: {قل لو كان البحر مدادًا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي} الآية [الكهف: 109]. وأوضح من هذا ما رواه الطبري عن عطاء بن يسار قال: نزلت بمكة {وما أوتيتم من العلم إلا قليلًا}، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أتاه أحبار يهود فقالوا: يا محمد ألم يبلغنا أنك تقول: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلًا}، أفعنيتنا أم قومَك؟ قال: كُلاّ قد عنيت قالوا: فإنك تتلو أنا أوتينا التوراة وفيها تبيان كل شيء. فقال رسول الله: هي في علم الله قليل، وقد آتاكم ما إن عملتم به انتفعتم. فأنزل الله {وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقمان: 27]. هذا، والذين حاولوا تقريب شرح ماهية الروح من الفلاسفة والمتشرعين بواسطة القول الشارح لم يأتوا إلا برسوم ناقصة مأخوذة فيها الأجناس البعيدة والخواص التقريبية غير المنضبطة وتحكيم الآثار التي بعضها حقيقي وبعضها خيالي، وكلها متفاوتة في القرب من شرح خاصاته وأماراته بحسب تفاوت تصوراتهم لماهيته المبنيات على تفاوت قوى مداركهم وكلها لا تعدو أن تكون رسومًا خيالية وشعرية معبرة عن آثار الروح في الإنسان. وإذا قد جرى ذكر الروح في هذه الآية وصُرف السائلون عن مرادهم لغرض صحيح اقتضاه حالهم وحال زمانهم ومكانهم، فما علينا أن نتعرض لمحاولة تعرف حقيقة الروح بوجه الإجمال فقد تهيأ لأهل العلم من وسائل المعرفة ما تغيرت به الحالة التي اقتضت صرف السائلين في هذه الآية بعض التغير، وقد تتوفر تغيرات في المستقبل تزيد أهل العلم استعدادًا لتجلي بعض ماهية الروح، فلذلك لا نجاري الذين قالوا: إن حقيقة الروح يجب الإمساك عن بيانها لأن النبي أمسك عنها فلا ينبغي الخوض في شأن الروح بأكثر من كونها موجودة. فقد رأى جمهور العلماء من المتكلمين والفقهاء منهم أبو بكر بن العربي في العواصم والنووي في شرح مسلم: أن هذه الآية لا تصد العلماء عن البحث عن الروح لأنها نزلت لطائفة معينة من اليهود ولم يقصد بها المسلمون. فقال جمهور المتكلمين: إنها من الجواهر المجردة، وهو غير بعيد عن قول بعضهم: هي من الأجسام اللطيفة والأرواح حادثة عند المتكلمين من المسلمين وهو قول أرسطاليس. وقال قدماء الفلاسفة: هي قديمة. وذلك قريب من مرادهم في القول بقدم العالم. ومعنى كونها حادثة أنها مخلوقة لله تعالى. فقيل: الأرواح مخلوقة قبل خلق الأبدان التي تنفخ فيها، وهو الأصح الجاري على ظواهر كلام النبي صلى الله عليه وسلم فهي موجودة من الأزل كوجود الملائكة والشياطين، وقيل: تخلق عند إرادة إيجاد الحياة في البدن الذي توضع فيه واتفقوا على أن الأرواح باقية بعد فناء أجسادها وأنها تحضر يوم الحساب. {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86) إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87)} هذا متصل بقوله: {وننزل من القرآن ما هو شفاء} [الإسراء: 82] الآية أفضت إليه المناسبة فإنه لما تضمن قوله: {قل الروح من أمر ربي} [الإسراء: 85] تلقينَ كلمة علم جامعة، وتضمن أن الأمة أوتيت علمًا ومُنعت علمًا، وأن علم النبوءة من أعظم ما أوتيته، أعقب ذلك بالتنبيه إلى الشكر على نعمة العلم دفعًا لغرور النفس، لأن العلم بالأشياء يكسبها إعجابًا بتميزها عمن دونها فيه، فأوقظت إلى أن الذي منح العلم قادر على سلبه، وخوطب بذلك النبي لأن علمه أعظم علم، فإذا كان وجود علمه خاضعًا لمشيئة الله فما الظن بعلم غيره، تعريضًا لبقية العلماء.
|